فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّ في ذَلِكَ} أي التسخير المتعلق بما ذكر {لاَيَاتٍ} باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنها لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا، وهو ظاهر على تقدير كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضًا، وأما إذا كان الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر.
وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم.
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذٍ قطع الآية بقوله سبحانه هنا: {يَعْقِلُونَ} للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى.
{وَمَا ذَرَأَ} أي خلق ومنه الذرية على قول والعطف عند بعض على {النجوم} [النحل: 12]. رفعًا ونصبًا على أنه مفعول لجعل و{مَا} موصولة أي والذي ذرأه {لَكُمْ في الأرض} من حيوان ونبات، وقيل: من المعادن ولا بأس في التعميم فيما أرى حال كونه {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو مجاز معروف في ذلك، قال الراغب: الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال: فلان أتى بألوان من الحديث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبًا يكون باختلاف اللون، وقيل: المراد المعنى الحقيقي أي مختلفًا ألوانه من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان والأصناف لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه، وذهب بعضهم إلى أن الموصول معطوف على الليل وقيل عليه: إن في ذلك شبه التكرار بناء على أن اللام في {لَكُمْ} للنفع وقد فسر {سَخَّرَ لَكُمُ} [النحل: 12]. لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل {مُخْتَلِفًا} حالًا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا يستلزم التسخير لزومًا عقليًا، فإن الغرض قد يتخلف مع أن الإعادة لطول العهد لا تنكر.
ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما ذكر علاوة مبني على كون {لَكُمْ} متعلقة بسخر أيضًا وهي عند ذلك الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذرأ وفي الحواشي الشهابية أن هذا ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل، وكون المعنى نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا ختمت بالتذكر، وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول: ما مبتدأ و{مُخْتَلِفًا} حال من ضميره المحذوف، وجملة قوله تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} خبره والرابط اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26]. كأنه قيل، وما ذرأه لكم في الأرض إن فيه لآية، وحاصله إن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملًا لكلام الله تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه، {و} ألوانه، على ألوان الاحتمالات مرفوع بمختلفًا وقدر بعضهم ليصح رفعه به موصوفًا وقال: أي صنفًا مختلفًا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو، ثم إن المشار إليه ما ذكر من التسخير ونحوه، وقيل: اختلاف الألوان {وتنوين} آية للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ينبغي أن يشبهه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدًا غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية، وقال بعضهم: يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيآته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب إليه الإمام واقتدى به غيره، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجىء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية، وقال بعضهم: لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول على أنه الواحد امستحق لأن يعبد وحده.
والخمسة المذكورة هي: الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم.
وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء، وأنها من أعزم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده. كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54]، وإغشاؤه الليل النهار: هو تسخيرهما، وقوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} [إبراهيم: 33]. الآية، وقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم} [يس: 37-39]، وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]. الآية، وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. إلى غير ذلك من الآيات، وفي هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات في الأسماء الأربعة الأخيرة، التي هي الشمس، والقمر، والنجوم، ومسخرات، فقرأ بنصبها كلها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية شعبة، وقرأ برفع الأسماء الأربعة ابن عامر، على أن {والشمس} مبتدأ وما بعده معطوزف عليه و{مُسَخَّرَاتٌ} خبر مبتدأ، وقرأ حفص عن عاصم بنصب {والشمس والقمر} عطفًا على {الليل والنهار} ورفع {والنجوم مُسَخَّرَاتٌ} على أنه مبتدأ وخبر، وأظهر أوجه الإعراب في قوله: {مُسَخَّرَاتٌ} على قراءة النصب أنها حال مؤكدة لعاملها، والتسخير في اللغة: التذليل.
{وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}.
قوله: {وَمَا} في محل نصب عطفًا على قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} [النحل: 12]. أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض، أي ما خلق لكم فيهل في حال كونه مختلفًا ألوانه.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض منبهًا على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام- فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر وبتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده، وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29]. الآية، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]. الآية، وقوله: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ والنخل ذَاتُ الأكمام والحب ذُو العصف والريحان فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 10-13]، وقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15].
واشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق أن يعبد وحده.
وأوضح هذا في آيات أخر. كقوله في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27-28]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك- فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل ولعا واحد، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك، وأنه المعبود وحده.
وفيه الدلاة القاطعة على أن كل تأثير بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وان الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا.
كما أوضح ذلك في قوله: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة. لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخرج متفاضلة، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم، والمقاير والمنافع.
فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد، ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا- أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألأقى فيها الحطب وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن الحطب اصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه. فأحرقت الحطب بحرها، وكانت على إبراهيم بردًا وسلامًا لما قال لها خالقها: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمَا على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. فسبحان من لا يقع شيء كائنًا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا، فعال لما يريد.
وقوله في هذه الاية الكريمة: {يذكرون} أصله يتذكرون، فأدغمت التاء في الذال، والاذكار: الاعتبار والاتعاظ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}.
آيات أخرى على دقيق صنع الله تعالى وعلمه ممزوجة بامتنان.
وتقدم ما يفسّر هذه الآية في صدر سورة يونس.
وتسخير هذه الأشياء تقدم عند قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر} في أوائل سورة الأعراف (54) وفي أوائل سورة الرعد وفي سورة إبراهيم.
وهذا انتقال للاستدلال بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه، وإدماج بين الاستدلال والامتنان.
ونيطت الدلالات بوصف العقل لأن أصل العقل كاف في الاستدلال بها على الوحدانية والقدرة، إذ هي دلائل بيّنة واضحة حاصلة بالمشاهدة كل يوم وليلة.
وتقدم وجه إقحام لفظ {قوم} آنفًا، وأن الجملة تذييل.
وقرأ الجمهور جميع هذه الأسماء منصوبة على المفعولية لِفعل سخر.
وقرأ ابن عامر: {والشمسُ والقمرُ والنجومُ} بالرفع على الابتداء ورفع {مسخرات} على أنه خبر عنها.
فنكتة اختلاف الإعراب الإشارة إلى الفرق بين التسخيرين.
وقرأ حفص برفع {النجومُ} و{مسخراتٌ}.
ونكتة اختلاف الأسلوب الفرق بين التسخيرين من حيث إن الأول واضح والآخر خفيّ لقلّة من يرقب حركات النجوم.
والمراد بأمره أمر التكوين للنظام الشمسي المعروف.
وقد أبدى الفخر في كتاب درّة التنزيل وجهًا للفرق بين إفراد آية في المرة الأولى والثالثة وبين جمع آيات في المرة الثانية: بأن ما ذكر أول وثالثًا يرجع إلى ما نجم من الأرض، فجميعه آية واحدة تابعة لخلق الأرض وما تحتويه {أي وهو كله ذو حالة واحدة وهي حالة النبات في الأرض في الأول وحالة واحدة وهي حالة الذرء في التناسل في الحيوان في الآية الثالثة} وأما ما ذكر في المرة الثانية فإنه راجع إلى اختلاف أحوال الشمس والقمر والكواكب، وفي كل واحد منها نظام يخصّه ودلائل تخالف دلائل غيره، فكان ما ذكر في ذلك مجموع آيات {أي لأن بعضها أعراض كالليل والنهار وبعضها أجرام لها أنظمة مختلفة ودلالات متعددة}.
{وَمَا ذَرَأَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}.
عطف على {الليل والنهار} [سورة النحل: 12]، أي وسخّر لكم ما ذرأ لكم في الأرض.
وهو دليل على دقيق الصّنع والحكمة لقوله تعالى: {مختلفًا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون}.
وأومىء إلى ما فيه من منّة بقوله: {لكم}.
والذرء: الخلق بالتناسل والتوّلد بالحمل والتفريخ، فليس الإنبات ذرءًا، وهو شامل للأنعام والكراع {وقد مضت المنّة به} ولغيرها مثل كلاب الصيد والحراسة، وجوارح الصيد، والطيور، والوحوش المأكولة، ومن الشجر والنبات.
وزيد هنا وصف اختلاف ألوانه وهو زيادة للتعجيب ولا دخل له في الامتنان، فهو كقوله تعالى: {تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} في سورة الرعد (4)، وقوله تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه} في سورة فاطر (27).
وبذلك صار هذا آية مستقلة فلذلك ذيّله بجملة {إن في ذلك لآية لقوم يذكرون}، ولكون محل الاستدلال هو اختلاف الألوان مع اتّحاد أصل الذرء أفردت الآية في قوله تعالى: {إن في ذلك لآية}.
والألوان: جمع لون.
وهو كيفية لسطوح الأجسام مدركة بالبصر تنشأ من امتزاج بعض العناصر بالسطح بأصل الخلقة أو بصبغها بعنصر ذي لون معروف.
وتنشأ من اختلاط عنصرين فأكثر ألوانٌ غير متناهية.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا ادع لنا ربك يبيّن لنا ما لونها} في سورة البقرة (69).
ونيط الاستدلال باختلاف الألوان بوصف التذكّر لأنه استدلال يحصل بمجرّد تذكّر الألوان المختلفة إذ هي مشهورة.
وإقحام لفظ {قوم} وكون الجملة تذييلًا تقدم آنفًا.
وأبدى الفخر في درة التنزيل وجهًا لاختلاف الأوصاف في قوله تعالى: {لقوم يتفكرون} [سورة النحل: 11]، وقوله: {لقوم يعقلون} [سورة النحل: 12]، وقوله: {لقوم يذكرون} بأن ذلك لمراعاة اختلاف شدّة الحاجة إلى قوة التأمل بدلالة المخلوقات الناجمة عن الأرض يحتاج إلى التفكر، وهو إعمال النظر المؤدي إلى العلم.
ودلالة ما ذرأه في الأرض من الحيوان محتاجة إلى مزيد تأمّل في التفكير للاستدلال على اختلاف أحوالها وتناسلها وفوائدها، فكانت بحاجة إلى التذكّر، وهو التفكّر مع تذكّر أجناسها واختلاف خصائصها.
وأما دلالة تسخير الليل والنهار والعوالم العلوية فلأنها أدقّ وأحوج إلى التعمّق.
عبر عن المستدلّين عليها بأنهم يعقلون، والتعقّل هو أعلى أحوال الاستدلال. اهـ.